فصل: تفسير الآيات رقم (44- 54)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 54‏]‏

‏{‏وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏45‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏47‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏ وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وما آتيناهم‏}‏‏:‏ أهل مكة، ‏{‏من كتب‏}‏، قال السدي‏:‏ من عندنا، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ فنقضوا أن الشرك جائز، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون‏}‏ وقال قتادة‏:‏ ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى‏:‏ من أين كذبوا، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بذلك‏؟‏ وقيل‏:‏ وصفهم بأنهم قومٍ آمنون، أهل جاهلية، ولا ملة لهم، وليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعثة رسول‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون‏}‏ فليس لتكذيبهم وجه مثبت، ولا شبهة تعلق‏.‏ كما يقول أهل الكتاب، وإن كانوا مبطلين‏:‏ نحن أهل الكتاب والشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله، يقول بعضهم سحر، وبعضهم افتراء، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم، ولا إلى خبر من يقبل خبره‏.‏ فإنا آتيناهم كتباً يدرسونها، ولا أرسلنا إليهم رسولاً ولا نذيراً فيمكنهم أن يدعوا، إن أقوالهم تستند إلى أمره‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يدرسونها‏}‏، مضارع درس مخففاً؛ أبو حيوة‏:‏ بفتح الدال وشدها وكسر الراء، مضارع ادّرس، افتعل من الدرس، ومعناه‏:‏ تتدارسونها‏.‏ وعن أبي حيوة أيضاً‏:‏ يدرسونها، من التدريس، وهو تكرير الدرس، أو من درس الكتاب مخففاً، ودرّس الكتاب مشدداً التضعيف باعتبار الجمع‏.‏ ومعنى ‏{‏قبلك‏}‏، قال ابن عطية‏:‏ أي وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء، ولا يباشر أهل عصرهم، ولا من قرب من آبائهم‏.‏ وقد كانت النذارة في العالم، وفي العرب مع شعيب وصالح وهود‏.‏ ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه، وإنما المعنى‏:‏ من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً‏}‏ ولكن لم يتجرد للنذارة، وقاتل عليها، إلا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وكذب الذين من قبلهم‏}‏‏:‏ توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم، وما آل إليه أمرهم، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة، وسيحل بهم ما حل بأولئك‏.‏ وأن الضميرين في‏:‏ ‏{‏بلغوا‏}‏ وفي‏:‏ ‏{‏ما آتيناهم‏}‏ عائدان على ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏، ليتناسقا مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكذبوا‏}‏، أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة، وابن زيد‏:‏ الضمير في ‏{‏بلغوا‏}‏ لقريش، وفي ‏{‏ما آتيناهم‏}‏ للأمم ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك‏؟‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏بلغوا‏}‏ عائد على ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏، وفي ‏{‏آتيناهم‏}‏ على قريش، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشاً من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به‏.‏

وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات، والزمخشري ذكر الثاني، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث، قال‏:‏ أي ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان، وذلك لأن كتاب محمد، عليه السلام، أكمل من سائر الكتب وأوضح، ومحمد، عليه السلام، أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفي، وبيانه أشفى، ويؤيد ما ذكرنا، ‏{‏وما آتيناهم من كتب يدرسونها‏}‏ تغني عن القرآن‏.‏ فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب، وكان أولى‏.‏ انتهى‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ فليس أنه أعلم من أمّته، ولا كتاب أبين من كتابه‏.‏ والمعشار مفعال من العشر، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع، ومعناهما‏:‏ العشر والربع‏.‏ وقال قوم‏:‏ المعشار عشر العشر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ليس بشيء‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ والعشر في هذا القول عشر المعشرات، فيكون جزأ من ألف جزء‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما معنى ‏{‏فكذبوا رسلي‏}‏، وهو مستغنى عنه بقوله ‏{‏وكذب الذين من قبلهم‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ لما كان معنى قوله‏:‏ ‏{‏وكذب الذين من قبلهم‏}‏، وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه، جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه، ونظيره أن يقول القائل‏:‏ أقدم فلان على الكفر، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويجوز أن ينعطف على قوله‏:‏ ‏{‏ما بلغوا‏}‏، كقولك‏:‏ ما بلغ زيد معشار فضل عمرو، فيفضل عليه‏.‏ ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏‏:‏ للمكذبين الأوّلين، فليحذروا من مثله‏.‏ انتهى‏.‏ وفكيف‏:‏ تعظيم للأمر، وليست استفهاماً مجرداً، وفيه تهديد لقريش، أي أنهم معرضون لنكير مثله، والنكير مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعل، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، وحذفت إلى من نكير تخفيفاً لأنها أجزأته‏.‏

‏{‏قل إنما أعظكم بواحدة‏}‏، قال‏:‏ هي طاعة الله وتوحيده‏.‏ وقال السدي‏:‏ هي لا إله إلاّ الله‏.‏ قال قتادة‏:‏ هي أن تقوموا‏.‏ قال أبو علي‏:‏ ‏{‏أن تقوموا‏}‏ في موضع خفض على البدل من واحدة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏بواحدة‏}‏‏:‏ بخصلة واحدة، وهو فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏أن تقوموا‏}‏ على أن عطف بيان لها‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا لا يجوز، لأن بواحدة نكرة، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله‏.‏ وعطف البيان فيه مذهبان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة، وهو مذهب الكوفيين، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب، وإنما هو وهم من قائله‏.‏ وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله‏:‏ ‏{‏إن مقام إبراهيم‏}‏

عطف بيان من قوله‏:‏ ‏{‏آيات بينات‏}‏ وذلك لأجل التحالف، فكذلك هذا‏.‏ والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر، والنهوض فيه بالهمة، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده‏.‏ والمعنى‏:‏ إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏مثنى وفرادى‏}‏، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، وتخليط الكلام، والتعصب للمذاهب، وقلة الإنصاف، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة، فلا يوقف فيها على تحقيق‏.‏ وأما الاثنان، إذا نظرا نظر إنصاف، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له، فلا يكاد الحق أن يعدوهما‏.‏ وأما الواحد، إذا كان جيد الفكر، صحيح النظر، عارياً عن التعصب، طالباً للحق، فبعيد أن يعدوه‏.‏ وانتصب ‏{‏مثنى وفرادى‏}‏ على الحال، وقدم مثنى، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، إذا انقدح الحق بين الاثنين، فكر كل واحد منهما بعد ذلك، فيزيد بصيرة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة *** فيزداد بعض القوم من بعضهم علما

‏{‏ثم تتفكروا‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏أن تقوموا‏}‏، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما نسبوه إليه‏.‏ فإن الفكرة تهدي غالباً إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر، والوقف عند أبي حاتم عند قوله‏:‏ ‏{‏ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة‏}‏، نفي مستأنف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به‏.‏ انتهى‏.‏ واحتمل أن يكون تتفكروا معلقاً، والجملة المنفية في موضع نصب، وهو محط التفكر، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلاً، وأثبتهم ذهناً، وأصدقهم قولاً، وأنزههم نفساً، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن، ولا يذهب إلى ذلك عاقل، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب‏.‏ والظاهر أن ما للنفي، كما شرحنا‏.‏ وقيل‏:‏ ما استفهام، وهو استفهام لا يراد به حقيقته، بل يؤول معناه إلى النفي، التقدير‏:‏ أي شيء بصاحبكم من الجنون، أي ليس به شيء من ذلك‏.‏ ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه ‏{‏نذير‏}‏، ‏{‏بين يدي عذاب شديد‏}‏‏:‏ أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به، وبين يدي يشعر بقرب العذاب‏.‏

‏{‏قل ما سألتكم من أجر‏}‏ الآية‏:‏ في التبري من طلب الدنيا، وطلب الأجر على النور الذي أتى به، والتوكل على الله فيه‏.‏

واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ، والعائد من الصلة محذوف تقديره‏:‏ سألتكموه، و‏{‏فهو لكم‏}‏ الخبر‏.‏ ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما سألتكم من أجر فهو لكم‏}‏ على معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ نفي مسألة للأجر، كما يقول الرجل لصاحبه‏:‏ إن أعطيتني شيئاً فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً، ولكنه أراد البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن، ويؤيده ‏{‏إن أجري إلا على الله‏}‏‏.‏ والثاني‏:‏ أن يريد بالأجر ما في قوله‏:‏ ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى‏}‏ لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم ما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القرابة، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم، قاله الزمخشري، وفيه بعض زيادة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الأجر‏:‏ المودة في القربى‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فهو لكم‏}‏، أي ثمرته وثوابه، لأني سألتكم صلة الرحم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ تركته لكم‏.‏ ‏{‏وهو على كل شيء شهيد‏}‏‏:‏ مطلع حافظ، يعلم أني لا أطلب أجراً على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء‏.‏

والقذف‏:‏ الرمي بدفع واعتماد، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله‏:‏ ‏{‏فاقذفيه في اليم‏}‏ ‏{‏وقذف في قلوبهم الرعب‏}‏ قال قتادة‏:‏ ‏{‏يقذف بالحق‏}‏‏:‏ يبين الحجة ويظهرها‏.‏ وقال ابن القشيري‏:‏ يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها، لأنه ‏{‏علام الغيوب‏}‏، وأنا مستمسك بما يقذف إليّ من الحق‏.‏ وأصل القذف‏:‏ الرمي بالسهم، أو الحصى والكلام‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يقذف الباطل بالحق، والظاهر أن بالحق هو المفعول، فالحق هو المقذوف محذوفاً، أي يقذف، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل، فتكون الباء إمّا للمصاحبة، وإمّا للسبب، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعدّياً بنفسه، فإذا جعلت بالحق هو المفعول، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ علام بالرفع، فالظاهر أنه خبر ثان، وهو ظاهر قول الزجاج، قال‏:‏ هو رفع، لأن تأويل قل رب علام الغيوب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ رفع محمول على محل إن واسمها، أو على المستكن في يقذف، أو هو خبر مبتدأ محذوف‏.‏ انتهى‏.‏ أمّا الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب سيبويه، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو‏.‏ وأمّا قوله على المستكن في يقذف، فلم يبين وجه حمله، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هو نعت لذلك الضمير، لأنه مذهبه جواز نعت المضمر الغائب‏.‏ وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وزيد بن علي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، وحرب عن طلحة‏:‏ علام بالنصب؛ فقال الزمخشري‏:‏ صفة لربي‏.‏

وقال أبو الفضل الرازي، وابن عطية‏:‏ بدل‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ بدل أو صفة؛ وقيل‏:‏ نصب على المدح‏.‏ وقرئ‏:‏ الغيوب بالجر، أمّا الضم فجمع غيب، وأمّا الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو؛ وأمّا الفتح فمفعول للمبالغة، كالصبور، وهو الشيء الذي غاب وخفي جداً‏.‏

ولما ذكر تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع، أخبر أن الحق قد جاء، وهو القرآن والوحي، وبطل ما سواه من الأديان، فلم يبق لغير الإسلام ثبات، لا في بدء ولا في عاقبة، فلا يخاف على الإسلام ما يبطله، كما قال‏:‏ ‏{‏لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏}‏ وقال قتادة‏:‏ الباطل‏:‏ الشيطان، لا يخلق شيئاً ولا يبعثه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الأصنام لا تفعل ذلك‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ لا يبتدئ الصنم من عنده كلاماً فيجاب، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة‏.‏ وقيل‏:‏ الباطل‏:‏ الذي يضاد الحق، فالمعنى‏:‏ ذهب الباطل بمجيء الحق، فلم يبقى منه بقية، وذلك أن الجائي إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فصار قولهم‏:‏ لا يبدي ولا يعيد، مثلاً في الهلاك، ومنه قول الشاعر‏:‏

أفقر من أهيله عبيد *** فاليوم لا يبدي ولا يعيد

والظاهر أن ما نفي، وقيل‏:‏ استفهام ومآله إلى النفي، كأنه قال‏:‏ أي شيء يبدئ الباطل، أي إبليس، ويعيده، قاله الزجاج وفرقة معه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ لا يبدئ، أي إبليس، لأهله خيراً، ولا يعيده‏:‏ أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ الشيطان‏:‏ الباطل، لأنه صاحب الباطل، لأنه هالك، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك‏.‏ وقيل‏:‏ الحق‏:‏ السيف‏.‏ عن ابن مسعود‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود نبقة ويقول‏:‏ «‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏، ‏{‏جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد‏}‏»‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قل إن ضللت‏}‏، بفتح اللام، ‏{‏فإنما أضل‏}‏، بكسر الضاد‏.‏ وقرأ الحسن، وابن وثاب، وعبد الرحمن المقري‏:‏ بكسر اللام وفتح الضاد، وهي لغة تميم، وكسر عبد الرحمن همزة أضل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لغتان نحو‏:‏ ضللت أضل، وظللت أظل‏.‏ ‏{‏وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي‏}‏، وأن تكون مصدرية، أي فبوحي ربي‏.‏ والتقابل اللفظي‏:‏ وإن اهتديت فإنما أهتدي لها، كما قال‏:‏ ‏{‏ومن أساء فعليها‏}‏ مقابل‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه‏}‏ ‏{‏ومن ضل فإنما يضل عليها‏}‏ مقابل‏:‏ ‏{‏فمن اهتدى فلنفسه‏}‏ أو يقال‏:‏ فإنما أضل بنفسي‏.‏ وأما في الآية فالتقابل معنوي، لأن النفس كل ما عليها فهو لها، أي كل وبال عليها فهو بسببها‏.‏ ‏{‏إن النفس لأمّارة بالسوء‏}‏ وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلف‏.‏ وأمر رسوله أن يسنده إلى نفسه، لأنه إذا دخل تحته مع جلالة محله وسر طريقته كما غيره أولى به‏.‏

انتهى، وهو من كلام الزمخشري‏.‏ ‏{‏إنه سميع قريب‏}‏، يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ فزعوا‏}‏ أنه وقت البعث وقيام الساعة، وكثيراً جاء‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم‏}‏ وكل ذلك في يوم القيامة؛ وعبر بفزعوا، وأخذوا، وقالوا؛ وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق‏.‏ وقال ابن عباس، والضحاك‏:‏ هذا في عذاب الدنيا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ في الكفار عند خروجهم من القبور‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وقال ابن زيد، والسدّي‏:‏ في أهل بدر حين ضربت أعناقهم، فلم يستطيعوا فراراً من العذاب، ولا رجوعاً إلى التوبة‏.‏ وقال ابن جبير، وابن أبي أبزي‏:‏ في جيش لغزو الكعبة، فيخسف بهم في بيداء من الأرض، ولا ينجو إلا رجل من جهينة، فيخبر الناس بما ناله، قالوا، وله قيل‏:‏

وعند جهينة الخبر اليقين *** وروى في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة‏.‏ وذكر الطبري أنه ضعيف السند، مكذوب فيه على رواية ابن الجراح‏.‏ وقال الزمخشري، وعن ابن عباس‏:‏ نزلت في خسف البيداء، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم‏.‏ وذكر في حديث حذيفة أنه تكون فتنة بين أهل المشرق والمغرب، فبينما هم كذلك، إذ خرج السفياني من الوادي اليابس في فوره، ذلك حين ينزل دمشق، فيبعث جيشاً إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام، ثم يخرجون إلى مكة فيأتيهم جبريل، عليه السلام، فيضربها، أي الأرض، برجله ضربة، فيخسف الله بهم في بيداء من الأرض، ولا ينجو إلا رجل من جهينة، فيخبر الناس بما ناله، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلا فوت‏}‏، ولا يتفلت منهم إلا رجلان من جهينة، ولذلك جرى المثل‏:‏ «وعند جهينة الخبر اليقين»، اسم أحدهما بشير، يبشر أهل مكة، والآخر نذير، ينقلب بخبر السفياني‏.‏ وقيل‏:‏ لا ينقلب إلا رجل واحد يسمى ناجية من جهينة، ينقلب وجهه إلى قفاه‏.‏ ومفعول ترى محذوف، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت، أي لا يفوتون الله، ولا يهرب لهم عنما يريد بهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ فلا فوت من صيحة النشور، وأخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها‏.‏ انتهى‏.‏ أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، وهذه أقوال مبنية على تلك الأقوال السابقة في عود الضمير في فزعوا‏.‏ ووصف المكان بالقرب من حيث قدرة الله عليهم، فحيث ما كانوا هو قريب‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فلا فوت‏}‏، مبني على الفتح، ‏{‏وأخذوا‏}‏‏:‏ فعلاً ماضياً، والظاهر عطفه على ‏{‏فزعوا‏}‏، وقيل‏:‏ على ‏{‏فلا فوت‏}‏، لأن معناه فلا يفوتوا وأخذوا‏.‏ وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه، وطلحة؛ فلا فوت، وأخذ مصدرين منونين‏.‏

وقرأ أبي‏:‏ فلا فوت مبنياً، وأخذ مصدراً منوناً، ومن رفع وأخذ فخبر مبتدأ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ، أي وهناك أخذ‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ‏:‏ وأخذ، وهو معطوف على محل فلا فوت، ومعناه‏:‏ فلا فوت هناك، وهناك أخذ‏.‏ انتهى‏.‏ كأنه يقول‏:‏ لا فوت مجموع لا، والمبني معها في موضع مبتدأ، وخبره هناك، فكذلك وأخذ مبتدأ، وخبره هناك، فهو من عطف الجمل، وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب‏.‏ والضمير في به عائد على الله، قاله مجاهد، أي يقولون ذلك عندما يرون العذاب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ على البعث‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ على القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ على العذاب‏.‏ وقال الزمخشري وغيره‏:‏ على الرسول، لمرور ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏ما بصاحبكم من جنة‏}‏‏.‏ ‏{‏وأنى لهم التناوش‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ التناوش‏:‏ الرجوع إلى الدنيا، وأنشد ابن الأنباري‏:‏

تمنى أن تؤوب إليّ ميّ *** وليس إلى تناوشها سبيل

أي‏:‏ تتمنى، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا‏.‏ مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعد، كما يتناوله الآخر من قرب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ التناوش بالواو‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏.‏ وأبو عمرو، وأبو بكر‏:‏ بالهمز، ويجوز أن يكونا مادتين، إحداهما النون والواو والشين، والأخرى النون والهمزة والشين، وتقدّم شرحهما في المفردات‏.‏ ويجوز أن يكون أصل الهمزة الواو، على ما قاله الزجاج، وتبعه الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء، وقال الزجاج‏:‏ كل واو مضمومة ضمة لازمة، فأنت فيها بالخيار، إن شئت تثبت همزتها، وإن شئت تركت همزتها‏.‏ تقول‏:‏ ثلاث أدور بلا همز، وأدؤر بالهمز‏.‏ قال‏:‏ والمعنى‏:‏ من أنى لهم تناول ما طلبوه من التوبة بعد فوات وقتها، لأنها إنما تقبل في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت على بعد من الآخرة، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من مكان بعيد‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه وأدور‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وأمّا التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناوش، وهمزت الواو لما كانت مضمومة ضمة لازمة، كما قالوا‏:‏ أفتيت‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ ومن همز احتمل وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون من الناش، وهو الحركة في إبطاء، ويجوز أن يكون من ناش ينوش، همزت الواو لانضمامها، كما همزت افتيت وأدور‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ويقرأ بالهمز من أجل الواو، وقيل‏:‏ هي أصل من ناشه‏.‏ انتهى‏.‏ وما ذكروه من أن الواو إذا كانت مضمومة ضمة لازمة يجوز أن تبدل همزة، ليس على إطلاقه، بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كان مدغمة فيها، ونحو يعود ويقوم مصدرين؛ ولا إذا صحت في الفعل نحو‏:‏ ترهوك ترهوكاً، وتعاون تعاوناً، ولم يسمع همزتين من ذلك، فلا يجوز‏.‏ والتناوش مثل التعاون، فلا يجوز همزه، لأن واوه قد صحت في الفعل، إذ يقول‏:‏ تناوش‏.‏

‏{‏وقد كفروا به‏}‏‏:‏ الضمير في به عائد على ما عاد عليه ‏{‏آمنا به‏}‏ على الأقوال، والجملة حالية، و‏{‏من قبل‏}‏ نزول العذاب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ويقذفون‏}‏ مبنياً للفاعل، حكاية حال متقدّمة‏.‏ قال الحسن‏:‏ قولهم لا جنة ولا نار، وزاد قتادة‏:‏ ولا بعث ولا نار‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ طاعنين في القرآن بقولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأوّلين‏}‏ وقال مجاهد في الرسول صلى الله عليه وسلم، بقولهم‏:‏ شاعر وساحر وكاهن‏.‏ ‏{‏من مكان بعيد‏}‏‏:‏ أي في جهة بعيدة، لأن نسبته إلى شيء من ذلك من أبعد الأشياء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله، لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ هو مستأنف، أي يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسها إيمانها، فمثلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم‏:‏ آمنا في الآخرة، وذلك مطلب مستبعد ممن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للنظر في لحوقه، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً‏.‏ والغيب‏:‏ الشيء الغائب‏.‏ وقرأ مجاهد، وأبو حيوة، ومحبوب عن أبي عمرو‏:‏ ويقذفون، مبنياً للمفعول‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ويرجمهم بما يكرهون من السماء‏.‏ وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه‏:‏ يجازون بسوء أعمالهم، ولا علم لهم بما أتاه، إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت، وإما في الآخرة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أي يأتيهم به، يعني بالغيب، شياطينهم ويلقنونهم إياهم‏.‏ وقيل‏:‏ يرمون في النار؛ وقيل‏:‏ هو مثل، لأن من ينادي من مكان بعيد لا يسمع، أي هم لا يعقلون ولا يسمعون‏.‏

‏{‏وحيل بينهم‏}‏، قال الحوفي‏:‏ الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله‏.‏ انتهى‏.‏ ولو كان على ما ذكر، لكان مرفوعاً بينهم، كفراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ في أحد المعنين، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير بنى، فهو في موضع رفع، وإن كان مبنياً‏.‏ كما قال بعضهم في قوله‏:‏ وإذ ما مثلهم، يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير، وإن كان مفتوحاً، لأنه قول فاسد‏.‏ يجوز أن تقول‏:‏ مررت بغلامك، وقام غلامك بالفتح، وهذا لا يقوله أحد‏.‏ والبناء لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقاً، بل له مواضع أحكمت في النحو، وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر‏:‏

وقد حيل بين العير والنزوان *** فإنه نصب بين، وهي مضافة إلى معرب، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو ضمير المصدر الدال عليه، وحيل هو، أي الحول، ولكونه أضمر لم يكن مصدراً مؤكداً، فجاز أن يقام مقام الفاعل، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر‏:‏

وقالت متى يبخل عليك ويعتلل *** بسوء وإن يكشف غرامك تدرب

أي‏:‏ ويعتلل هو، أي الاعتلال‏.‏ والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا، قاله ابن عباس؛ أو الأهل والمال والولد، قاله السدي؛ أو بين الجيش وتخريب الكعبة، أو بين المؤمنين، أو بين النجاة من العذاب، أو بين نعيم الدنيا ولذتها، قاله مجاهد أيضاً‏.‏ ‏{‏كم فعل بأشياعهم‏}‏، من كفرة الأمم، أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم‏.‏ و‏{‏من قبل‏}‏‏:‏ يصح أن يكون متعلقاً ‏{‏بأشياعهم‏}‏، أي من اتصف بصفتهم من قبل، أي في الزمان الأول‏.‏ ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد، ويصح أن يكون متعلقاً بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أشياعهم أصحاب الفيل، يعني أشياع قريش، وكأنه أخرجه مخرج التمثيل‏.‏ وأما التخصيص، فلا دليل عليه‏.‏ ‏{‏إنهم كانوا في شك مريب‏}‏‏:‏ يعني في الدنيا، ومريب اسم فاعل من أراب الرجل‏:‏ أتى بريبة ودخل فيها، وأربت الرجل‏:‏ أوقعته في ريبة، ونسبة الارابة إلى الشك مجاز‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ إلا أن بينهما فرقاً، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول‏:‏ شعر شاعر‏.‏ انتهى، وفيه بعض تبيين‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون أردفه على الشك، وهما بمعنى لتناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب، كما تقول‏:‏ عجب عجيب، وشتاشات، وليلة ليلاء‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاماً‏.‏

سورة فاطر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية‏.‏ ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين، وأنزلهم منازل العذاب، تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ووصفه بعظيم آلائه، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏}‏ وقرأ الضحاك والزهري‏:‏ فطر، جعله فعلاً ماضياً ونصب ما بعده‏.‏ قال أبو الفضل الرازي‏:‏ فأما على إضمار الذي فيكون نعتاً لله عز وجل، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال‏.‏ انتهى‏.‏ وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين، وأما الحال فيكون حالاً محكية، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو فطر، وتقدم شرح ‏{‏فاطر السموات والأرض‏}‏، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن، والسموات والأرض عبارة عن العالم‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة، ونعم الله عاجلة، و‏{‏الحمد لله الذين خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور‏}‏ إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً‏}‏ و‏{‏الحمد لله الذين أنزل على عبده الكتاب‏}‏ إشارة إليها أيضاً، وهي الاتقاء، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب‏.‏ والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر، ودليله‏:‏ ‏{‏يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها‏}‏ منها، وقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة‏}‏ وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة، ودليله‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة‏}‏ ففاطر السموات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء، وخروج الأجساد من الأرض دليله‏:‏ ‏{‏جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة‏}‏‏:‏ أي في ذلك اليوم‏.‏ فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب‏.‏ ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ جاعل بالرفع، أي هو جاعل؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو‏:‏ وجاعل رفعاً بغير تنوين، الملائكة نصباً، حذف التنوين لالتقاء الساكنين‏.‏ وقرأ ابن يعمر، وخليد بن نشيط‏:‏ جعل فعلاً ماضياً، الملائكة نصباً، وذلك بعد قراءته فاطر بألف، والجر كقراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏فالق الإصباح وجعل الليل سكناً‏}‏ وقرأ الحسن، وحميد بن قيس‏:‏ رسلاً بإسكان السين، وهي لغة تميم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة‏.‏ فمن قرأ‏:‏ فطر وجعل، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخباراً من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم، كما تقول‏:‏ الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل، كذلك يكون في قوله‏:‏ فطر، جعل، لأن في ذلك نعماً لا تحصى‏.‏ ومن قرأ‏:‏ وجاعل، فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي، فيكونان صفة لله، ويجيء الخلاف في نصب رسلاً‏.‏

فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل، وإن كان ماضياً لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني‏.‏ ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو‏.‏ وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلاً‏.‏ وقيل‏:‏ هو مستقبل تقديره‏:‏ يجعل الملائكة رسلاً، ويكون أيضاً إعرابه بدلاً‏.‏ ومعنى رسلاً بالوحي وغيره من أوامره، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلاً‏.‏ فمن الرسل‏:‏ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، والملائكة المتعاقبون، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والاقرع‏.‏

و ‏{‏أجنحة‏}‏ جمع جناح، صيغة جمع القلة، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملاً في القليل والكثير‏.‏ وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعاً، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا، فقال الزمخشري‏:‏ مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر، كما عدل عمر عن عامر، وحذام عن حاذمة، وعن تكرير إلى غير تكرير‏.‏ وأما بالوصفية، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها‏.‏ ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها‏؟‏ انتهى‏.‏ فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل‏.‏ وأما قوله‏:‏ ألا تراك، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة، وليس بصحيح، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة، بل اشترطوا فيه‏.‏ فليس الشرط موجوداً في أربع، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث‏.‏ وليس شرطه في ثلاثة موجوداً، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث‏.‏ فقياس الزمخشري قياس فاسد، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ عدلت عن حال التنكير، فتعرفت بالعدل، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل‏:‏ للعدل والصفة‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الثاني هو المشهور، والأول قول لبعض الكوفيين‏.‏ والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان، وآخر ثلاثة، وآخر أربعة، وآخر أكثر من ذلك، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب‏.‏ قال قتادة‏:‏ وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلاً‏:‏ يطالع ذلك في كتابه‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة‏.‏ وقيل‏:‏ بل هي ثلاثة لواحد، كما يوجد لبعض الحيوانات‏.‏ والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ يزيل بحثه في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله فاطر السموات والأرض‏}‏، وهو الذي حكينا عنه أن قوله‏:‏ ‏{‏جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع‏}‏، أقل ما يكون لذي الجناح، إشارة إلى الجهة، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه، وكل شيء تحت قدرته ونعمته، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏نزل به الروح الأمين على قبلك‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏علمه شديد القوى‏}‏ وقال تعالى في حقهم‏:‏ ‏{‏فالمدبرات أمراً‏}‏ فهما جناحان، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة، وفيهم من يفعله لا بواسطة‏.‏ فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات، ومنهم من له أربع جهات وأكثر‏.‏ انتهى‏.‏ وبحثه في هذه، وفي ‏{‏فاطر السموات والأرض‏}‏ بحث عجيب، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل‏.‏ والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة، وقيل‏:‏ ‏{‏أولي أجنحة‏}‏ معترض، و‏{‏مثنى‏}‏ حال، والعامل فعل محذوف يدل عليه ‏{‏رسلاً‏}‏، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع‏.‏ قيل‏:‏ وإنما جعلهم أولي أجنحة، لأنه لما جعلهم رسلاً، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء‏.‏ فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير‏.‏

‏{‏يزيد في الخلق ما يشاء‏}‏‏:‏ تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء، والظاهر عموم الخلق‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هذا في الأجنحة التي للملائكة، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة‏.‏ وقالوا‏:‏ في هذه الزيادة الخلق الحسن، أو حسن الصوت، أو حسن الخط، أو لملاحة في العينين أو الأنف، أو خفة الروح، أو الحسن، أو جعودة الشعر، أو العقل، أو العلم، أو الصنعة، أو العفة في الفقراء، والحلاوة في الفم، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر‏.‏ والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة، وما يشاء عام لا يخص مستحسناً دون غيره‏.‏ وختم الآية بالقدرة على كل شيء يدل على ذلك، والفتح والإرسال استعارة للإطلاق، ‏{‏فلا مرسل له‏}‏ مكان لا فاتح له، والمعنى‏:‏ أي شيء يطلق الله‏.‏

‏{‏من رحمة‏}‏‏:‏ أي نعمة ورزق، أو مطر، أو صحة، أو أمن، أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها‏.‏ وما روي عن المفسرين المتقدمين من تفسير رحمة بشيء معين فليس على الحصر منه، إنما هو مثال‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال‏:‏ من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، فلا يقدر أحد على إمساكها وحبسها، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه‏.‏ انتهى‏.‏ والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو، وهو مما اجتزئ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط، وتقديره‏:‏ من الرحمات، ومن في موضع الحال، أي كائناً من الرحمات، ولا يكون في موضع الصفة، لأن اسم الشرط لا يوصف‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وما يمسك‏}‏ عام في الرحمة وفي غيرها، لأنه لم يذكر له تبيين، فهو باق على العموم في كل ما يمسك‏.‏ فإن كان تفسيره ‏{‏من رحمة‏}‏، وحذفت لدلالة الأول عليه، فيكون تذكير الضمير في ‏{‏فلا مرسل له من بعده‏}‏ حملاً على لفظ ما، وأنث في ‏{‏ممسك لها‏}‏ على معنى ما، لأن معناها الرحمة‏.‏ وقرئ‏:‏ فلا مرسل لها، بتأنيث الضمير، وهو دليل على أن التفسير هو ‏{‏من رحمة‏}‏، وحذف لدلالة ما قبله عليه‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏من رحمة‏}‏‏:‏ من باب توبة، ‏{‏فلا ممسك لها‏}‏‏:‏ أي يتوبون إن شاؤوا وإن أبوا، ‏{‏وما يمسك‏}‏‏:‏ من باب، ‏{‏فلا مرسل له‏}‏ من بعده، فهم لا يتوبون‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ ‏{‏من رحمة‏}‏‏:‏ من هداية‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس‏؟‏ قلت‏:‏ أراد بالتوبة‏:‏ الهداية لها والتوفيق فيها، وهو الذي أراده ابن عباس، إن قاله فمقبول، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب فمردود، لأن الله تعالى يشاء التوبة أبداً، ولا يجوز عليه أن لا يشاء بها‏.‏ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ ‏{‏من بعده‏}‏‏:‏ هو على حذف مضاف، أي من بعد إمساكه، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن يهديه من بعد الله‏}‏ أي من بعد إضلال الله إياه، لأن قبله وأضله الله على علم، كقوله‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله فلا هادي له‏}‏ وقدره الزمخشري من بعد هداية الله، وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية، جرى فيه على طريقة الاعتزال‏.‏ ‏{‏وهو العزيز‏}‏ الغالب القادر على الإرسال والإمساك، ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يرسل ويمسك ما اقتضته حكمته‏.‏

‏{‏يا أيها الناس‏}‏‏:‏ خطاب لقريش، وهو متجه لكل مؤمن وكافر، ولا سيما من عبد غير الله، وذكرهم بنعمه في إيجادهم‏.‏ و‏{‏اذكروا‏}‏‏:‏ ليس أمراً بذكر اللسان، ولكن به وبالقلب وبحفظ النعمة من كفرانها وشكرها، كقولك لمن أنعمت عليه‏:‏ اذكر أياديّ عندك، تريد حفظها وشكرها، والجميع مغمورون في نعمة الله‏.‏ فالخطاب عام اللفظ، وإن كان نزل ذلك بسبب قريش، ثم استفهم على جهة التقرير‏.‏ ‏{‏هل من خالق غير الله‏}‏‏:‏ أي فلا إله إلا الخالق، ما تعبدون أنتم من الأصنام‏.‏ وقرأ ابن وثاب، وشقيق، وأبو جعفر، وزيد بن علي، وحمزة، والكسائي‏:‏ غير بالخفض، نعتاً على اللفظ، ‏{‏ومن خالق‏}‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏يرزقكم‏}‏‏:‏ جوزوا أن يكون خبراً للمبتدأ، وإن يكون صفته، وأن يكون مستأنفاً، والخبر على هذين الوجهين محذوف تقديره لكم‏.‏ وقرأ شيبة، وعيسى، والحسن، وباقي السبعة‏:‏ ‏{‏غير‏}‏ بالرفع، وجوزوا أن يكون نعتاً على الموضع، كما كان الخبر نعتاً على اللفظ، وهذا أظهر لتوافق القراءتين؛ وأن يكون خبراً للمبتدأ، وأن يكون فاعلاً باسم الفاعل الذي هو خالق، لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، فحسن إعماله، كقولك‏:‏ أقائم زيد في أحد وجهيه‏؟‏ وفي هذا نظر، وهو أن اسم الفاعل، أو ما جرى مجراه، إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل، فرفع ما بعده، هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فتقول‏:‏ هل من قائم الزيدون‏؟‏ كما تقول‏:‏ هل قائم الزيدون‏؟‏ والظاهر أنه لا يجوز‏.‏

ألا ترى أنه إذا جرى مجرى الفعل، لا يكون فيه عموم خلافه إذا أدخلت عليه من، ولا أحفظ مثله في لسان العرب، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلام العرب‏؟‏ وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي‏:‏ غير بالنصب على الاستثناء، والخبر إما يرزقكم وإما محذوف، ويرزقكم مستأنف؛ وإذا كان يرزقكم مستأنفاً، كان أولى لانتفاء صدق خالق على غير الله، بخلاف كونه صفة، فإن الصفة تقيد، فيكون ثم خالق غير الله، لكنه ليس برازق‏.‏ ومعنى ‏{‏من السماء‏}‏‏:‏ بالمطر، ‏{‏والأرض‏}‏‏:‏ بالنبات، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏‏:‏ جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب‏.‏ ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏‏:‏ أي كيف يصرفون على التوحيد إلى الشرك، وأن يكذبوك إلى الأمور، تقدم الكلام على ذلك‏.‏

‏{‏إن وعد الله حق‏}‏‏:‏ شامل لجميع ما وعد من ثواب وعقاب وغير ذلك‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الغرور‏}‏ بفتح الغين، وفسره ابن عباس بالشيطان‏.‏ وقرأ أبو حيوة، وأبو السمال‏:‏ بضمها جمع غار، أو مصدراً، كقوله‏:‏ ‏{‏فدلاهما بغرور‏}‏ وتقدم الكلام على ذلك في آخر لقمان‏.‏ ‏{‏إن الشيطان لكم عدو‏}‏‏:‏ عداوته سبقت لأبينا آدم، وأي عداوة أعظم من أن يقول في بنيه‏:‏ ‏{‏لأغوينهم أجمعين‏}‏ ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ ‏{‏فاتخذوه عدواً‏}‏‏:‏ أي بالمقاطعة والمخالفة باتباع الشرع‏.‏ ثم بين أن مقصوده في دعاء حزبه إنما هو تعذيبهم في النار، يشترك هو وهم في العذاب، فهو حريص على ذلك أشد الحرص حتى يبين صدق قوله في‏:‏ ‏{‏فلاغوينهم‏}‏، ‏{‏ولأضلنهم‏}‏، لأن الاشتراك فيما يسوء مما قد يتسلى به بخلاف المنفرد بالعذاب‏.‏ ثم ذكر الفريقين، وما أعدّ لهما من العقاب والثواب‏.‏ وبدأ بالكفار لمجاورة قوله‏:‏ ‏{‏إنما يدعو حزبه‏}‏، فاتبع خبر الكافر بحاله في الآخرة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ واللام في ليكون لام الصيرورة، لأنه لم يدعهم إلى السعير، إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك‏.‏ انتهى‏.‏ ونقول‏:‏ هو مما عبر فيه عن السبب بما تسبب عنه دعاؤهم إلى الكفر، وتسبب عنه العذاب‏.‏ و‏{‏الذين كفروا‏}‏، ‏{‏والذين آمنوا‏}‏‏.‏ مبتدآن، وجوز بعضهم في ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أن يكون في موضع خفض بدلاً ‏{‏من أصحاب السعير‏}‏، أو صفة، وفي موضع نصب بدلاً من ‏{‏حزبه‏}‏، وفي موضع رفع بدلاً من ضمير ‏{‏ليكونوا‏}‏، وهذا كله بمعزل من فصاحة التقسيم وجزالة التركيب‏.‏

‏{‏أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً‏}‏‏:‏ أي فرأى سوء عمله حسناً، ومن مبتدأ موصول، وخبره محذوف‏.‏ فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير‏:‏ كمن لم يزين له، كقوله‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله‏}‏ ‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏}‏ ‏{‏أَو من كان ميتاً فأحييناه‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كمن مثله في الظلمات‏}‏ وقاله الكسائي، أي تقديره‏:‏ تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة‏:‏ ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ فرآه حسناً، فأضله الله كمن هداه الله، فحذف ذلك لدلالة‏:‏ ‏{‏فإن الله يضل من يشاء‏}‏، وذكر هذين الوجهين الزجاج‏.‏ وشرح الزمخشري هنا ‏{‏يضل من يشاء‏}‏ على طريقته في غير موضع من كتابه، من أن الإضلال هو خذلانه وتخليته وشأنه، وأتى بألفاظ كثيرة في هذا المعنى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أفمن زين‏}‏ مبنياً للمفعول سوء رفع‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير‏:‏ زين له سوء، مبنياً للفاعل، ونصب سوء؛ وعنه أيضاً أسوأ على وزن أفعل منصوباً؛ وأسوأ عمله‏:‏ هو الشرك‏.‏ وقراءة طلحة‏:‏ أمن بغير فاء، قال صاحب اللوامح‏:‏ للاستخبار بمعنى العامة للتقرير، ويجوز أن يكون بمعنى حرف النداء، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب‏.‏ انتهى‏.‏ ويعني بالجواب‏:‏ خبر المبتدأ، وبالتمام‏:‏ ما يؤدي لأجله، أي تفكر قومه، ووجوب إلى الله، ‏{‏فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ تسلية للرسول عن كفر قومه، ووجوب التسليم لله في إضلاله من يشاء وهداية من يشاء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فلا تذهب نفسك‏}‏، مبنياً للفاعل من ذهب، ونفسك فاعل‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وقتادة، وعيسى، والأشهب، وشيبة، وأبو حيوة، وحميد والأعمش، وابن محيصن‏:‏ تذهب من أذهب، مسند الضمير المخاطب، نفسك‏:‏ نصب، ورويت عن نافع‏:‏ والحسرة هم النفس على فوات أمر‏.‏ وانتصب ‏{‏حسرات‏}‏ على أنه مفعول من أجله، أي فلا تهلك نفسك للحسرات، وعليهم متعلق بتذهب، كما تقول‏:‏ هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً، أو هو بيان للمتحسر عليه، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر، فلا يتقدّم معموله‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً، كأنه كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير‏:‏

مشق الهواجر لحمهن مع السرى *** حتى ذهبن كلاكلاً وصدرواً

يريد‏:‏ رجعن كلاكلاً وصدوراً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها، ومنه قوله‏:‏

فعلى إثرهم تساقط نفسي *** حسرات وذكرهم لي سقام

انتهى‏.‏ وما ذكر من أن كلاكلاً وصدوراً حالان هو مذهب سيبويه‏.‏ وقال المبرد‏:‏ هو تمييز منقول من الفاعل، أي حتى ذهبت كلاكلها وصدورها‏.‏ ثم توعدهم بالعقاب على سوء صنعهم فقال‏:‏ ‏{‏إن الله عليم بما يصنعون‏}‏‏:‏ أي فيجازيهم عليه‏.‏

‏{‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

القمطير‏:‏ المشهور أنه القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة، ويأتي ما قال المفسرون‏.‏ الجدد‏:‏ جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل، كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والجدد‏:‏ الخطط والطرائق‏.‏ وقال لبيد‏:‏ أو مذهب جدد على الواحد، ويقال‏:‏ جدة الحمار للخطة السوداء التي على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

كأن مبرات وجدة ظهره *** كنائن يجري بينهن دليص

الجدة‏:‏ الخط الذي في وسط ظهره، يصف حمار وحش‏.‏ الغربيب‏:‏ الشديد السواد‏.‏ لغب يلغب لغوباً‏:‏ أعيا‏.‏

‏{‏والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور، من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور، والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير، وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلسبونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسعموا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير‏}‏‏.‏

لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة، ذكر أشياء من الأمور الأرضية‏:‏ الرياح وإسالها، وفي هذا احتجاج على منكري البعث‏.‏ دلهم على المثال الذي يعاينونه، وهو وإحياء الموتى سيان‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه‏؟‏ فقال‏:‏ هل مررت بوادي أهلك محلاً، ثم مررت به يهتز خضراً‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم، فقال‏:‏ فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه»

قيل‏:‏ ‏{‏أرسل‏}‏ في معنى يرسل، ولذلك عطف عليه ‏{‏فتثير‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية، ومنه فتصبح الأرض مخضرة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب، أو يتهم المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شراً‏:‏

بأني قد لقيت الغول تهوي *** بشهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلاد هش فخرت *** صريعاً لليدين وللجران

لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول، وثباته عند كل شدّة‏.‏

وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها‏.‏ لما كان من الدلائل على القدرة الباهرة وقيل‏:‏ فسقنا وأحيينا، معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه‏.‏ انتهى‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه‏:‏ أي أرسل بلفظ الماضي‏.‏ لما أسند إلى الله وما يفعله تعالى بقوله‏:‏ كن، لا يبقى زماناً ولا جزء زمان، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه، ولأنه فرغ من كل شيء، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة‏.‏ ولما أسند الإثارة إلى الريح، وهي تؤلف في زمان، قال‏:‏ ‏{‏فتثير‏}‏، وأسند ‏{‏أرسل‏}‏ إلى الغائب، وفي ‏{‏فسقناه‏}‏، و‏{‏فأحيينا‏}‏ إلى المتكلم، لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال، ثم لما عرف قال‏:‏ أنا الذي عرفتني سقت السحاب فأحييت الأرض‏.‏ ففي الأول تعريف بالفعل العجيب، وفي الثاني تذكير بالبعث‏.‏ وفسقناه وفأحيينا بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين فتثير وأرسل‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكر من الفرق بين أرسل وفتثير لا يظهر‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة الروم‏:‏ ‏{‏ألله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ وفي الأعراف ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته‏}‏ كيف جاء في الإرسال بالمضارع‏؟‏ وإنما هذا من التفنن في الكلام والتصرف في البلاغة‏.‏ وأما الخروج من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه فهو من باب الالتفات، وكذلك ما في الأعراف ‏{‏سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات‏}‏ وأما قوله‏:‏ وما يفعله تعالى إلى آخره، وكل فعل، وإن كان أسند إلى غيره مجازاً، فهو فعله حقيقة، فلا فرق بين ما يسنده إلى ذاته، وبين ما يسند إلى غيره، لأن جميع ذلك هو إيجاده وخلقه‏.‏ والنشور، مصدر نشر‏:‏ الميت إذا حيي، قال الأعشى‏:‏

حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجباً للميت الناشر

والنشور‏:‏ مبتدأ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر، والتشبيه وقع لجهات لما قلبت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاء تقبل الحياة‏.‏ أو كما أن الريح يجمع قطع السحاب، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء؛ أو كما يسوق الرياح والسحاب إلى البلد الميت، يسوق الروح والحياة إلى البدن‏.‏ ‏{‏من كان يريد العزة‏}‏‏:‏ أي المغالبة، ‏{‏فالله العزة‏}‏‏:‏ أي ليست لغيره، ولا تتم إلا به، والمغالب مغلوب‏.‏ ونحا إليه مجاهد وقال‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة‏}‏ بعبادة الأوثان، وهذا تمثيل لقوله‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً‏}‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة‏}‏ وطريقها القويم ويحب نيلها، ‏{‏فالله العزة‏}‏‏:‏ أي به وعن أمره، لاتنال عزته إلا بطاعته‏.‏

وقال الفراء‏:‏ من كان يريد علم العزة، ‏{‏فالله العزة‏}‏‏:‏ أي هو المتصف بها‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من كان يريد العزة‏}‏‏:‏ أي لا يعقبها ذلة، ويصار بها للذلة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كان الكافرون يتعززون بالأصنام، كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً‏}‏ والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال‏:‏ ‏{‏الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم فإن العزة لله جميعاً‏}‏ فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال‏:‏ ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ انتهى‏.‏ ولا تنافي بين قوله‏:‏ ‏{‏فإن العزة لله جميعاً‏}‏ وإن كان الظاهر أنها له لا لغيره، وبين قوله ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ وإن كان يقتضى الاشتراك، لأن العزة في الحقيقة لله بالذات، وللرسول بواسطة قربه من الله، وللمؤمنين بواسطة الرسول‏.‏ فالمحكوم عليه أولاً غير المحكوم عليه ثانياً‏.‏ ومن اسم شرط، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفاً، والجواب محذوف تقديره على حسب تلك الأقوال السابقة‏.‏ فعلى قول مجاهد‏:‏ فهو مغلوب، وعلى قول قتادة‏:‏ فيطلبها من الله، وعلى قول الفراء‏:‏ فلينسب ذلك إلى الله، وعلى القول الرابع‏:‏ فهو لا ينالها؛ وحذف الجواب استغناء عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فللََّه العزة جميعاً‏}‏، لدلالته عليه‏.‏ والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة‏:‏ فليطلبها من العزة له يتصرف فيها كما يريد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتعز من تشاء وتذل من تشاء‏}‏ وانتصب جميعاً على المراد، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة‏.‏

و ‏{‏الكلم الطيب‏}‏‏:‏ التوحيد والتحميد وذكر الله ونحو ذلك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ ثناء بالخير على صالحي المؤمنين‏.‏ وقال كعب‏:‏ إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل بذكر صاحبها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يصعد‏}‏، مبنياً للفاعل من صعد؛ ‏{‏الكلم الطيب‏}‏‏:‏ مرفوعاً، فالكلم جمع كلمة‏.‏ وقرأ علي، وابن مسعود، والسلمي، وإبراهيم‏:‏ يصعد من أصعد، الكلام الطيب على البناء للمفعول‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ يصعد من صعد الكلام‏:‏ رقي، وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه، لأنه تعالى ليس في جهة، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأن الصعود من الاجرام يكون، وإنما ذلك كناية عن القبول، ووصفه بالكمال‏.‏ كما يقال‏:‏ علا كعبة وارتفاع شأنه، ومنه ترافعوا إلى الحاكم، ورفع الأمر إليه، وليس هناك علو في الجهة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ والعمل الصالح يرفعهما‏.‏ فالعمل مبتدأ، ويرفعه الخبر، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح، وضمير النصب يعود على الكلم، أي يرفع الكلم الطيب، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل قبل، وإن خالف رد‏.‏ وعن ابن عباس نحوه، قال‏:‏ إذ اذكر الله العبد وقال كلاماً طيباً وأدّى فرائضه، ارتفع قوله مع عمله؛ وإذا قال ولم يؤدّ فرائضه، رد قوله على عمله؛ وقيل‏:‏ عمله أولى به‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول يرده معتقد أهل السنة، ولا يصح عن ابن عباس‏.‏ والحق أن القاضي لفرائضه إذ ذكر الله وقال كلاماً طيباً، فإنه مكتوب له متقبل، وله حسناته وعليه سيئآته، والله يتقبل من كل من اتقى الشرك‏.‏ وقال أبو صالح، وشهر بن حوشب عكس هذا القول‏:‏ ضمير الفاعل يعود على الكلم، وضمير النصب على العمل الصالح، أي يرفعه الكلم الطيب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن الفاعل هو ضمير يعود على الله، والهاء للعمل الصالح، أي يرفعه الله إليه، أي يقبله‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هذا أرجح الأقوال‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه، فجعله على حذف مضاف‏.‏ ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفاً على الكلم الطيب، أي يصعدان إلى الله، ويرفعه استئناف إخبار، أي يرفعهما الله، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة، فيكون لفظه مفرداً، والمراد به التثنية، فكأنه قيل‏:‏ ليس صعودهما من ذاتهما، بل ذلك برفع الله إياهما‏.‏ وقرأ عيس، وابن أبي عبلة‏:‏ والعمل الصالح، بنصبهما على الاشتغال، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله، ومكر لازم، والسيئات نعت لمصدر محذوف، أي المكرات السيئات، أو المضاف إلى المصدر، أي أضاف المكر إلى السيئات، أو ضمن يمكرون معنى، يكتسبون، فنصب السيئات مفعولاً به‏.‏ وإذا كانت السيئات نعتاً لمصدر، أو لمضاف لمصدر، فالظاهر أنه عنى به مكرات قريش في دار الندوة، إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات، وهي المذكورة في الأنفال‏:‏ إثباته، أو قتله، أو إخراجه؛ و‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات‏.‏ ‏{‏يبور‏}‏‏:‏ أي يفسد ويهلك دون مكر الله بهم، إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله‏:‏ ‏{‏ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله‏}‏ وهو مبتدأ، أو يبور خبره، والجملة خبر عن قوله‏:‏ ‏{‏ومكر أولئك‏}‏‏.‏ وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون هو فاصلة، ويبور خبر، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما يكون ما بعدها فعلاً، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له، فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلاً وردّ ذلك عليه‏.‏

‏{‏والله خقلكم من تراب‏}‏‏:‏ من حيث خلق أبينا آدم‏.‏ ‏{‏ثم من نطفة‏}‏‏:‏ أي بالتناسل‏.‏ ‏{‏ثم جعلكم أزواجاً‏}‏‏:‏ أي أصنافاً ذكراناً واناثاً، كما قال‏:‏ ‏{‏أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً‏}‏ وقال قتادة‏:‏ قدّر بينكم الزوجية، وزوّج بعضكم بعضاً، ومن في ‏{‏من معمر‏}‏ زائدة، وسماه بما يؤول إليه، وهو الطويل العمر‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏من عمره‏}‏ عائد على معمر لفظاً ومعنى‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ يعود على معمر الذي هو اسم جنس، والمراد غير الذي يعمر، فالقول تضمن شخصين‏:‏ يعمر أحدهما مائة سنة، وينقص من الآخر‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً، وابن جبير، وأبو مالك‏:‏ المراد شخص واحد، أي يحصي ما مضى منه إذ مر حول كتب ذلك ثم حول، فهذا هو النقص، وقال الشاعر‏:‏

حياتك أنفاس تعدّ فكلما *** مضى نفس منك انتقصت به جزءا

وقال كعب الاحبار‏:‏ معنى ‏{‏ولا ينقص من عمره‏}‏‏:‏ لا يخترم بسببه قدره الله، ولو شاء لأخر ذلك السبب‏.‏ وروي أنه قال، لما طعن عمر رضي الله عنه‏:‏ لو دعا الله لزاد في أجله، فأنكر المسامون عليه ذلك وقالوا‏:‏ إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فإذا جاء أجهلم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ فاحتج بهذه الآية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين، وبنحوه تمسك المعتزلة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ولا ينقص، مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ يعقوب، وسلام، وعبد الوارث، وهارون، كلاهما عن أبي عمرو‏:‏ ولا ينقص، مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏{‏من عمر إلا في كتاب‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو اللوح المحفوظ‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يراد كتاب الله علم الله، أو صحيفة الإنسان‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وما يستوي البحران‏}‏‏:‏ هذه آية أخرى يستدل بها على كل عاقل أنه مما لا مدخل لصنم فيه‏.‏ وتقدم شرح‏:‏ ‏{‏هذا عذب فرات‏}‏ وشرح‏:‏ ‏{‏وهذا ملح أجاج‏}‏ في سورة الفرقان‏.‏ وهنا بين القسمين صفة للعرب، وبين قوله‏:‏ ‏{‏سائغ شرابه‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ سائغ، اسم فاعل من ساغ‏.‏ وقرأ عيسى‏:‏ سيغ على وزن فيعل، كميت؛ وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم‏.‏ وقرأ عيسى أيضاً‏:‏ سيغ مخففاً من المشدد، كميت مخفف ميت‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ملح، وأبو نهيك وطلحة‏:‏ بفتح الميم وكسر اللام، وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ وهي لغة شاذة، ويجوز أن يكون مقصوراً من مالح، فحذف الألف تخفيفاً‏.‏ وقد يقال‏:‏ ماء ملح في الشذوذ، وفي المستعمل‏:‏ مملوح‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ضرب البحرين، العذب والملح، مثلين للمؤمن والكافر‏.‏ ثم قال على صفة الاستطراد في صفة البحرين وما علق بها‏:‏ من نعمته وعطائه‏.‏ ‏{‏ومن كل‏}‏، من شرح الزمخشري‏:‏ ألفاظاً من الآية تكررت في سورة النحل‏.‏ ثم قال‏:‏ ويحتمل غير طريقة الاستطراد، وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ، وجرى الفلك فيه‏.‏ وللكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك‏}‏ الآية‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏لتبتغوا من فضله‏}‏‏:‏ يريد التجارات والحج والغزو، أو كل سفر له وجه شرعي‏.‏

‏{‏يولج الليل في النهار‏}‏‏:‏ تقدم شرح هذه الجمل‏.‏ ولما ذكر أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة، من إرسال الرياح، والإيجاد من تراب وما عطف عليه، وإيلاج الليل في النهار، وتسخير الشمس والقمر؛ أشار إلى أن المتصف بهذه الأفعال الغريبة هو الله فقال‏:‏ ‏{‏ذلكم الله ربكم له الملك‏}‏، وهي أخبار مترادفة؛ والمبتدأ ‏{‏ذلكم‏}‏، و‏{‏الله ربكم‏}‏ خبران، و‏{‏له الملك‏}‏ جملة مبتدأ في قران قوله‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير‏}‏‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة وعطف بيان، وربكم خبر، لولا أن المعنى يأباه‏.‏ انتهى‏.‏ أما كونه صفة، فلا يجوز، لأن الله علم، والعلم لا يوصف به، وليس اسم جنس كالرجل، فتتخيل فيه الصفة‏.‏ وأما قوله‏:‏ لولا أن المعنى يأباه، فلا يظهر أن المعنى يأباه، لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم، أي مالكم، أو مصلحكم، وهذا معنى لائق سائغ، والذين يدعون من دونه هي الأوثان‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تدعون، بتاء الخطاب، وعيسى، وسلام، ويعقوب‏:‏ بياء الغيبة‏.‏ وقال صاحب الكامل أبو القاسم بن جبارة‏:‏ يدعون بالياء، اللؤلؤي عن أبي عمرو وسلام، والنهاوندي عن قتيبة، وابن الجلاء عن نصير، وابن حبيب وابن يونس عن الكسائي، وأبو عمارة عن حفص‏.‏ والقطمير، تقدم شرحه‏.‏ وقال جويبر عن رجاله، والضحاك‏:‏ هو القمع الذي في رأس التمرة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لفافة النواة؛ وقيل‏:‏ الذي بين قمع التمرة والنواة؛ وقيل‏:‏ قشر الثوم؛ وأياً ما كان، فهو تمثيل للقليل، وقال الشاعر‏:‏

وأبوك يخفف نعله متوركاً *** ما يملك المسكين من قطمير

‏{‏لا يسمعوا دعاءكم‏}‏، لأنهم جماد؛ ‏{‏ولو سمعوا‏}‏، هذا على سبيل الفرض؛ ‏{‏ما استجابوا لكم‏}‏، لأنهم لا يدعون لهم من الإلهية، يتبرؤون منها‏.‏ وقيل‏:‏ ما نفعوكم، وأضاف المصدر‏:‏ في شرككم، أي بإشراككم لهم مع الله في عبادتكم إياهم كقوله‏:‏ ‏{‏ما كنتم إيانا تعبدون‏}‏ فهي إضافة إلى الفاعل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يكفرون‏}‏، يحتمل أن يكون بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة ناطق، ومدافعة كل محتج، فيجيء هذا على طريق التجوز، كقول ذي الرمة‏:‏

وقفت على ربع لمية ناطق *** تخاطبني آثاره وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني أحجاره وملاعبه

‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏، قال قتادة وغيره من المفسرين‏:‏ الخبير هنا أراد به تعالى نفسه، فهو الخبير الصادق الخبر، نبأ بهذا، فلا شك في وقوعه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏ من تمام ذكر الأصنام، كأنه قال‏:‏ فلا يخبرك مثل من يخبرك عن نفسه، أي لا يصدق في تبرئها من شرككم منها، فيريد بالخبير على هذا المثل لهما، كأنه قال‏:‏ ولا ينبئك مثل خبير عن نفسه، وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لا يخبرك بالأمر مخبر، هو مثل خبير عالم به، يريد أن الخبير بالأمر هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به‏.‏ والمعنى‏:‏ أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق، لأني خبير بما أخبر به‏.‏ وقال في التجريد‏:‏ يحتمل وجهين‏:‏ أن يكون ذلك خطاباً للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم بربهم يكفرون‏}‏، أي يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمراً عجيباً هو كما قال، لأن المخبر عنه خبير‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون خطاباً ليس مختصاً بأحد، أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر، لا ينبئك أيها السامع كائناً من كنت مثل خبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 26‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

هذه آية موعظة وتذكير، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإنعامه في جميع أحوالهم، لا يستغنى أحد عنه طرفة عين، وهو الغني عن العالم على الإطلاق‏.‏ وعرّف الفقراء ليريهم شديد افتقارهم إليه، إذ هم جنس الفقراء، وإن كان العالم بأسره مفتقر إليه، فلضعفهم جعلوا كأنهم جميع هذا الجنس؛ ولو نكر لكان المعنى‏:‏ أنتم، يعني الفقراء، وقوبل الفقراء بالغني، ووصف بالحميد دلالة على أنه جواد منعم، فهو محمود على ما يسديه من النعم، مستحق للحمد‏.‏ ولما ذكر أنه الغني على الإطلاق، ذكر ما يدل على استغنائه عن العالم، وأنه ليس بمحتاج إليهم فقال‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏‏:‏ أي إن يشأ إذهابكم يذهبكم، وفي هذا وعيد بإهلاكهم‏.‏ ‏{‏وما ذلك‏}‏‏:‏ أي إذهابكم، والإتيان بخلق جديد ‏{‏بعزيز‏}‏، أي بممتنع عليه، إذ هو المتصف بالقدرة التامة، فلا يمتنع عليه شيء مما يريده‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏بخلق جديد‏}‏‏:‏ بدلكم لقوله‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم‏}‏ وعن ابن عباس‏:‏ يخلق بعدكم من يعبده، لا يشرك به شيئاً‏.‏ وقد جاء هذا المعنى من ذكر الإذهاب بعد وصفه تعالى بالغني في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء‏}‏ وجاء أيضاً تعليق الإذهاب مختوماً آخر الآية بذكر القدرة الدالة على ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً‏}‏ روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين‏:‏ اكفروا بمحمد وعليّ وزركم، فنزلت‏.‏ وأخبر تعالى، لا يحمله أحد عن أحد‏.‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏:‏ هذه الآية في الذنوب والجرائم‏.‏ ويقال‏:‏ وزر الشيء‏:‏ حمله، ووازرة‏:‏ صفة لمحذوف، أي نفس وازرة‏:‏ حاملة، وذكر الصفة ولم يذكر الموصوف مقتصراً عليه، لأن المعنى‏:‏ أن كل نفس لا ترى إلا حامله وزرها، لا وزر غيرها، فلا يؤاخذ نفساً بذنب نفس، كما يأخذ جبابرة الدنيا الجار بالجار، والصديق بالصديق، والقريب بالقريب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ومن تطرف من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمه، كفعل زياد ونحوه، فإنما ذلك ظلم، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بموازرة ومواصلة، أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب‏.‏ انتهى‏.‏ وكأن ابن عطية تأول أفعال زياد وما فعل في الإسلام، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجاج، ولا منافاة بين هذه الآية في العنكبوت، لأن تلك في الضالين المضلين يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، فكل ذلك أثقالهم، ما فيها من ثقل غيرهم شيء‏.‏ ألا ترى‏:‏ ‏{‏وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء‏}‏ ‏{‏وإن تدع مثقلة‏}‏‏:‏ أي نفس مثقلة بحملها، ‏{‏إلى حملها لا يحمل منه شيء‏}‏‏:‏ أي لا غياث يومئذ لمن استغاث، ولا إعانة حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وزرها لم تجب وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها وهذه في نفي الإعانة والحمل ما كان على الظهر في الأجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر كقوله‏:‏

‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏ كما جعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ يحمل بالياء، مبنياً للمفعول؛ وأبو السمال عن طلحة، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي‏:‏ بفتح التاء من فوق وكسر الميم، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف، أي وإن تدع مثقلة نفساً أخرى إلى حملها، لم تحمل منه شيئاً‏.‏ واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏وإن تدع‏}‏، هذا معنى قول الزمخشري، قال‏:‏ وترك المدعو ليعم ويشمل كل مدعو‏.‏ قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ فكيف استفهام إضمار، ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقل‏؟‏ قلت‏:‏ هو من العموم الكائن على طريق البلد‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ واسم كان مضمر تقديره ولو كان‏.‏ انتهى، أي ولو كان الداعي ذا قربى من المدعو، فإن المدعو لا يحمل منه شيئاً‏.‏ وذكر الضمير حملاً على المعنى، لأن قوله‏:‏ ‏{‏مثقلة‏}‏، لا يريد به مؤنث المعنى فقط، بل كل شخص، فكأنه قيل‏:‏ وإن تدع شخصاً مثقلاً‏.‏ وقرئ‏:‏ ولو كان ذو قربى، على أن كان تامة، أي ولو حضر إذا ذاك ذو قربى ودعته، لم يحمل منه شيئاً‏.‏ وقالت العرب‏:‏ قد كان لبن، أي حضر وحدث‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة، لأن المعنى‏:‏ على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه، وإن كان مدعوها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم‏.‏ ولو قلت‏:‏ ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج عن اتساقه والتئامه‏.‏ انتهى‏.‏ وهو نسق ملتئم على التقدير الذي ذكرناه، وتفسيره كان، وهو مبني للفاعل، يؤخذ المبني للمفعول تفسير معنى، وليس مرادفاً ومرادفه، حدث أو حضر أو وقع، هكذا فسره النحاة‏.‏

ولما سبق ما تضمن الوعيد وبعض أهوال القيامة، كان ذلك إنذاراً، فذكر أن الإنذار إنما يجدي وينفع من يخشى الله‏.‏ ‏{‏بالغيب‏}‏‏:‏ حال من الفاعل أو المفعول، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائباً عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ بالغيب في السر، وقيل‏:‏ بالغيب، أي وهو بحال غيبه عنهم إنما هي رسالة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ومن تزكى‏}‏، فعلاً ماضياً، ‏{‏فإنما يتزكى‏}‏‏:‏ فعلاً، مضارع تزكى، أي ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي، فإنما ثمرة ذلك عائدة عليه، وهو إنما زكاته لنفسه لا لغيره، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة‏.‏

وقرأ العباس عن أبي عمرو‏:‏ ومن يزكى فإنما يزكى، بالياء من تحت وشدّ الزاي فيهما، وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى، أدغمت التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله‏:‏ ‏{‏يذكرون‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وطلحة‏:‏ ومن ازكى، بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء؛ وطلحة أيضاً‏:‏ فإنما يزكى، بإدغام التاء في الزاي‏.‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏‏:‏ وعد لمن يزكى بالثواب‏.‏

‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏}‏ الآية‏:‏ هي طعن على الكفرة وتمثيل‏.‏ فالأعمى الكافر، والبصير المؤمن، أو الأعمى الصنم، والبصير الله عز وجل وعلا، أي لا يستوي معبودهم ومعبود المؤمنين‏.‏ والظلمات والنور، والظل والحرور‏:‏ تمثيل للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب‏.‏ والأحياء والأموات، تمثيل لمن دخل في الإسلام ومن لم يدخل فيه‏.‏ والحرور‏:‏ شدّة حر الشمس‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والحرور‏:‏ السموم، إلا أن السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار؛ وقيل‏:‏ بالليل‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قال رؤبة‏:‏ الحرور بالليل، والسموم بالنهار، وليس كما قال، وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره‏:‏ أن السموم يختص بالنهار‏.‏ ويقال‏:‏ الحرور في حر الليل، وفي حر النهار‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يرد على رؤبة، لأنه منه تؤخذ اللغة، فأخبر عن لغة قومه‏.‏ وقال قوم‏:‏ الظل هنا‏:‏ الجنة، والحرور‏:‏ جهنم، ويستوي من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد‏.‏ فدخول لا في النفي لتأكيد معناه لقوله‏:‏ ‏{‏ولا تستوي الحسنة والسيئة‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ دخول لا إنما هو على هيئة التكرار، كأنه قال‏:‏ ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني، ودل مذكور الكلام على متروكه‏.‏ انتهى‏.‏ وما ذكر غير محتاج إلى تقديره، لأنه إذا نفى استواء الظلمات والنور، فأي فائدة في تقدير نفي استوائهما ثانياً وادعاء محذوفين‏؟‏ وأنت تقول‏:‏ ما قام زيد ولا عمرو، فتؤكد بلا معنى النفي، فكذلك هذا‏.‏ وقرأ زادان عن الكسائي‏:‏ وما تستوي الأحياء، بتاء التأنيث؛ والجمهور‏:‏ بالياء، وترتيب هذه المنفي عنها الاستواء في غاية الفصاحة‏.‏ وذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر، ثم البصير‏.‏ ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء، فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر، وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان‏.‏ ثم ذكر مآلهما، وهو الظل، وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب‏.‏

ثم ذكر مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير، إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك مّا، والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً، فهو كالميت، ولذلك أعاد الفعل فقال‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏، كأنه جعل مقام سؤال، وكرر لا فيما ذكر لتأكيد المنافاة‏.‏ فالظلمات تنافي النور وتضاده، والظل والحرور كذلك، والأعمى والبصير ليس كذلك، لأن الشخص الواحد قد يكون بصيراً‏.‏ ثم يعرض له العمى، فلا منافاة إلا من حيث الوصف‏.‏

والمنافاة بين الظل والحرور دائمة، لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد؛ فلما كانت المنافاة أتم، أكد بالتكرار‏.‏ وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلاً للحياة، فيصير محلاً للموت‏.‏ فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير، لأن هذين قد يشتركان في إدراك مّا، ولا كذلك الحي‏.‏ والميت يخالف الحي في الحقيقة، لا في الوصف، على ما بين في الحكمة الإلهية‏.‏ وقدّم الأشرف في مثلين، وهو الظل والحر؛ وآخر في مثلين، وهما البصير والنور، ولا يقال لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه‏.‏ وفي المعنى‏:‏ والشاعر قد يقدّم ويؤخر لأجل السجع والقرآن‏.‏ المعنى صحيح، واللفظ فصيح، وكانوا قبل المبعث في ضلالة، فكانوا كالعمي، وطريقهم الظلمة‏.‏ فلما جاء الرسول، واهتدى به قوم، صاروا بصيرين، وطريقهم النور، وقدّم ما كان متقدّماً من المتصف بالكفر، وطريقته على ما كان متأخراً من المتصف بالإيمان وطريقته‏.‏ ثم لما ذكر المآل والمرجع، قدّم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب، كما جاء‏:‏ سبقت رحمتي غضبي، فقدّم الظل على الحرور‏.‏

ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى، وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأحياء‏}‏‏:‏ الذين آمنوا بما أنزل الله، ‏{‏ولا الأموات‏}‏‏:‏ الذين تليت عليهم الآيات البينات، ولم ينتفعوا بها‏.‏ وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن، فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافر‏.‏ وأفرد الأعمى والبصير، لأنه قابل الجنس بالجنس، إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء، كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد‏.‏ فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به، لا بين الأفراد‏.‏ وجمعت الظلمات، لأن طرق الكفر متعدّدة؛ وأفرد النور، لأن التوحيد والحق واحد، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال‏:‏ الظلمات لا تجد فيها ما يساوي هذا النور‏.‏ وأما الأحياء والأموات، فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حياً، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات، سواء قابلت الجنس بالجنس، أم قابلت الفرد بالفرد‏.‏ انتهى‏.‏ من كلام أبي عبد الله الرازي، وفيه بعض تلخيص‏.‏

ثم سلى رسوله بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله يسمع من يشاء‏}‏‏:‏ أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا، وكنى بالإسماع عن الذي تكون عنه الإجابة للإيمان‏.‏ ولما ذكر أنه ‏{‏ما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏، قال‏:‏ ‏{‏وما أنت بمسمع من في القبور‏}‏‏:‏ أي هؤلاء، من عدم إصغائهم إلى سمع الحق، بمنزلة من هم قد ماتوا فأقاموا في قبورهم‏.‏ فكما أن من مات لا يمكن أن يقبل منك قول الحق، فكذلك هؤلاء، لأنهم أموات القلوب‏.‏ وقرأ الأشهب، والحسن بمسمع من، على الإضافة؛ والجمهور‏:‏ بالتنوين‏.‏ ‏{‏إن أنت إلا نذير‏}‏‏:‏ أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر‏.‏

فإن كان المنذر ممن أراد الله هدايته سمع واهتدى، وإن كان ممن أراد الله ضلاله فما عليك، لأنه تعالى هو الذي يهدي ويضل‏.‏ و‏{‏بالحق‏}‏‏:‏ حال من الفاعل، أي محق‏.‏ أو من المفعول، أي محقاً، أو صفة لمصدر محذوف، أي إرسالاً بالحق، أي مصحوباً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو صلة بشير ونذير، فنذير على بشير بالوعد الحق؛ ونذير بالوعيد‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يمكن أن يتعلق بالحق هذا بشير ونذير معاً، بل ينبغي أن يتأول كلامه على أنه أراد أن ثم محذوفاً، والتقدير‏:‏ بالوعد الحق بشيراً، وبالوعيد الحق نذيراً، فحذف المقابل لدلالة مقابله عليه‏.‏

‏{‏وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير‏}‏، الأمة‏:‏ الجماعة الكثيرة، والمعنى‏:‏ أن الدعاء إلى الله لم ينقطع عن كل أمة‏.‏ أما بمباشرة من أنبيائهم وما ينقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي تدل على أن قريشاً ما جاءهم نذير معناه لم يباشرهم ولا آباؤهم القريبين، وأما أن النذارة انقطعت فلا‏.‏ ولما شرعت آثار النذراة تندرس، بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات، فإن ذلك على حسب العرض لأنه واقع، ولا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله وعبارته‏.‏ واكتفى بذكر نذير عن بشير، لأنها مشفوعة بها في قوله‏:‏ ‏{‏بشيراً ونذيراً‏}‏، فدل ذلك على أنه مراد، وحذف للدلالة عليه‏.‏ ‏{‏وإن يكذبوك‏}‏‏:‏ مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقدّم الكلام على نظير هذه الجمل في أواخر آل عمران‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏، توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 35‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏، وهذا الاستفهام تقريري، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً‏.‏ والخطاب للسامع، وتر من رؤية القلب، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل، وإن كان إنزال المطر مشاهداً بالعين، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها‏.‏ وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله‏:‏ ‏{‏فأخرجنا‏}‏، لما في ذلك من الفخامة، إذ هو مسند للمعظم المتكلم‏.‏ ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم، وما دونه بضمير الغائب‏.‏ والظاهر أن الألوان، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مختلفاً ألوانها‏}‏، على حد اختلف ألوانها‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ مختلفة ألوانها، على حد اختلفت ألوانها، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء، وأن لا تلحق‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏جُدَد‏}‏، بضم الجيم وفتح الدال، جمع جدة‏.‏ قال ابن بحر‏:‏ قطع من قولك‏:‏ جددت الشيء‏:‏ قطعته‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ كقراءة الجمهور‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ جمع جدة، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها‏.‏ وعنه أيضاً، بضم الجيم والدال‏:‏ جمع جديدة وجدد وجدائد، كما يقال في الاسم‏:‏ سفينة وسفن وسفائن‏.‏ قال أبو ذؤيب‏:‏

جون السراة أم جدائد أربع ***

وعنه أيضاً‏:‏ بفتح الجيم والدال، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى، ولا صححه أثراً‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو الطريق الواضح المبين، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ يقال جدد في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ جدد جمع جديد بمعنى‏:‏ آثار جديدة واضحة الألوان‏.‏ انتهى‏.‏ وقال‏:‏ مختلف ألوانها، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف، فأبيض لا يشبه أبيض، وأحمر لا يشبه أحمر، وإن اشتركا في القدر المشترك، لكنه مشكل‏.‏ والظاهر عطف ‏{‏وغرابيب‏}‏ على ‏{‏حمر‏}‏، عطف ذي لون على ذي لون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ معطوف على ‏{‏بيض‏}‏ أو على ‏{‏جدد‏}‏، كأنه قيل‏:‏ ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد‏.‏ وقال بعد ذلك‏:‏ ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جدد‏}‏، بمعنى‏:‏ ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى تؤول إلى قولك‏:‏ ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال‏:‏ ‏{‏ثمرات مختلفاً ألوانها‏}‏‏.‏ ‏{‏ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها‏}‏ يعني‏:‏ ومنهم بعض مختلف ألوانه‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ ألوانها‏.‏ انتهى‏.‏

والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب، وهو الشديد السواد، لم يذكر فيه مختلف ألوانه، لأنه من حيث جعله شديد السواد، وهو المبالغ في غاية السواد، لم يكن له ألوان، بل هذا لون واحد، بخلاف البيض والحمر، فإنها مختلفة‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏بيض حمر‏}‏ ليسا مجموعين بجدة واحدة، بل المعنى‏:‏ جدد بيض، وجدد حمر، وجدد غرابيب‏.‏ ويقال‏:‏ أسود حلكوك، وأسود غربيب، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعاً‏.‏ فقال ابن عطية‏:‏ قدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر، وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الغربيب تأكيد للاسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد، كقولك‏:‏ أصفر فاقع، وأبيض يقق، وما أشبه ذلك؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله، فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر، كقول النابغة‏:‏

والمؤمن العائذات الطير ***

وإنما يفعل لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعاً‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد‏.‏ ومن النحاة من منع ذلك، وهو اختيار ابن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ هو على التقديم والتأخير، أي سود غرابيب‏.‏ وقيل‏:‏ سود بدل من غرابيب، وهذا أحسن، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً، ومنه ما جاء في الحديث‏:‏ «أن الله يبغض الشيخ الغربيب»، يعني الذي يخضب بالسواد، وقال الشاعر‏:‏

العين طامحة واليد سابحة *** والرجل لائحة والوجه غربيب

وقال آخر‏:‏

ومن تعاجيب خلق الله غالية *** البعض منها ملاحيّ وغربيب

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الدواب‏}‏، مشدد الباء؛ والزهري‏:‏ بتخفيفها، كراهية التضعيف، إذ فيه التقاء الساكنين‏.‏ كما همز بعضهم ‏{‏ولا الظالين‏}‏، فراراً من التقاء الساكنين، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين‏.‏ ومختلفة، صفة لمحذوف، أي خلق مختلف ألوانه كذلك، أي كاختلاف الثمرات والجبال؛ فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله، والوقف عليه حسن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب، كأنه قال‏:‏ كما جاءت القدرة في هذا كله‏.‏

‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏‏:‏ أي المخلصون لهذه العبر، الناظرون فيها‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الاحتمال لا يصح، لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها، ولو خرج مخرج السبب، لكان التركيب‏:‏ كذلك يخشى الله من عباده، أي لذلك الاعتبار، والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله‏.‏ ولكن التركيب جاء بإنما، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً، ومن كان علمه به أقل كان آمن، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه‏.‏ ومن ادعى أن إنما للحصر قال‏:‏ المعنى ما يخشى الله إلا العلماء، فغيرهم لا يخشاه، وهو قول الزمخشري‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه‏.‏ انتهى‏.‏

وجاءت هذه الجملة بعد قوله‏:‏ ‏{‏الم تر‏}‏، إذ ظاهره خطاب للرسول، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته، فكأنه قال‏:‏ إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بنصب الجلالة ورفع العلماء‏.‏ وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم، لأن من خشي وهابه أجل وعظم من خشيه وهاب، ولعل ذلك لا يصح عنهما‏.‏ وقد رأينا كتباً في الشواذ، ولم يذكروا هذه القراءة، وإنما ذكرها الزمخشري، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل‏.‏ ‏{‏إن الله عزيز غفور‏}‏‏:‏ تعليل للخشية، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم‏.‏

‏{‏إن الذين يلتون‏}‏‏:‏ ظاهره يقرأون، ‏{‏كتاب الله‏}‏‏:‏ أي يداومون تلاوته‏.‏ وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير‏:‏ هذه آية القراء، ويتبعون كتاب الله، فيعملون بما فيه؛ وعن الكلبي‏:‏ يأخذون بما فيه‏.‏ وقال السدي‏:‏ هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وقال‏:‏ «عطاءهم المؤمنون»‏.‏ ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية، وهي عمل القلب، ذكر أنهم يتلون كتاب الله، وهو عمل اللسان‏.‏ ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏‏:‏ وهو عمل الجوارح، وينفقون‏:‏ وهو العمل المالي‏.‏ وإقامة الصلاة والإنفاق‏:‏ يقصدون بذلك وجه الله، لا للرياء والسمعة‏.‏ ‏{‏تجارة لن تبور‏}‏‏:‏ لن تكسد، ولا يتعذر الربح فيها، بل ينفق عند الله‏.‏ ‏{‏ليوفهم‏}‏‏:‏ متعلق بيرجون، أو بلن تبور، أو بمضمر تقديره‏:‏ فعلوا ذلك، أقوال‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وإن شئت فقلت‏:‏ يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض‏.‏ وخبر إن قوله‏:‏ ‏{‏إنه غفور شكور‏}‏ لأعمالهم، والشكر مجاز عن الإثابة‏.‏ انتهى‏.‏ وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم، وزيادته من فضله‏.‏ قال أبو وائل‏:‏ بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بتفسيح القلوب، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ بتضعيف حسناتهم ‏"‏ وقيل‏:‏ بالنظر إلى وجهه‏.‏ والكتاب‏:‏ هو القرآن، ومن‏:‏ للتبين أو الجنس أو التبعيض، تخريجات للزمخشري‏.‏ ‏{‏ومصدقاً‏}‏‏:‏ حال مؤكدة لما ‏{‏بين يديه‏}‏ من الكتب الإلهية‏:‏ التوراة والانجيل والزبور وغيره، وفيه إشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً كاتباً، وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى‏.‏ ‏{‏إن الله بعباده لخبير بصير‏}‏‏:‏ عالم بدقائق الأشياء وبواطنها، بصير بما ظهر منها، وحيث أهلك لوحيه، واختارك برسالته وكتابه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏.‏

‏{‏ثم أورثنا الكتاب‏}‏، وثم قيل‏:‏ بمعنى الواو، وقيل‏:‏ للمهلة، إما في الزمان، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه‏.‏

والكتاب فيه قولان، أحدهما‏:‏ أن المعنى‏:‏ أنزلنا الكتب الإلهية، والكتاب على هذا اسم جنس‏.‏ والمصطفون، على ما يأتي بيانه أن المعنى‏:‏ الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم هذه الأمة، أورثت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كل كتاب أنزله الله‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ أورثهم الإيمان، فالكتب تأمر باتباع القرآن، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها، يدل عليه‏:‏ ‏{‏والذين أوحينا إليك من الكتاب هو الحق‏}‏، ثم أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب‏}‏، فعلمنا أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان معنى الميراث‏:‏ انتقال شيء من قوم إلى قوم، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته‏.‏ فإذا قلنا‏:‏ هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى‏:‏ أورثنا كل كتاب أنزل على نبي، ذلك النبي وأتباعه‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن الكتاب هو القرآن، والمصطفون أمة الرسول، ومعنى أورثنا، قال مجاهد‏:‏ أعطينا، لأن الميراث عطاء‏.‏ ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام الثلاثة، قال مكي‏:‏ فقيل هم المذكرون في الواقعة‏.‏ فالسابق بالخيرات هو المقرب، والمقتصد أصحاب الميمنة، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة، قالوا‏:‏ الضمير في منهم عائد على العباد‏.‏ فالظالم لنفسه الكافر والمنافق، والمقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق، وقالوا‏:‏ هو نظير ما في الواقعة‏.‏ والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذباً ضالاً لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين‏.‏ قال عثمان ابن عفان‏:‏ سابقنا أهل جهاد، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جمعة ولا جماعة‏.‏ وقال معاذ‏:‏ الظالم لنفسه‏:‏ الذي مات على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد‏:‏ من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها، والسابق‏:‏ من مات نائباً عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم لنفسه‏:‏ العاصي المسرف، والمقتصد‏:‏ متقي الكبائر، والسابق‏:‏ المتقي على الإطلاق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الظالم‏:‏ من خفت حسناته، والمقتصد‏:‏ من استوت، والسابق‏:‏ من رجحت‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ قسمهم إلى ظالم مجرم، وهو المرجأ لأمر الله، ومقتصد، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ وسابق، من السابقين‏.‏ انتهى‏.‏ وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولاً في هؤلاء الأصناف الثلاثة‏.‏ وقرأ أبو عمران الحوفي، وعمر ابن أبي شجاع، ويعقوب في رواية، والقرآءة عن أبي عمر و‏:‏ سباق؛ والجمهور‏.‏ سابق، قيل‏:‏ وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏‏:‏ بتيسيره وتمكنه، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته، بل ذلك منه تعالى‏.‏

والظاهر أن الإشارة بذلك الى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة‏.‏

‏{‏وجنات‏}‏ على هذا مبتدأ، و‏{‏يدخلونها‏}‏ الخبر‏.‏ وجنات، قرأءة الجمهور جمعاً بالرفع، ويكون ذلك إخباراً بمقدار أولئك المصطفين‏.‏ وقال الزمخشري، وابن عطية‏:‏ ‏{‏جنات‏}‏ بدل من ‏{‏الفضل‏}‏‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ فكيف جعلت ‏{‏جنات عدن‏}‏ بدلاً من ‏{‏الفضل الكبير‏}‏ الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك‏؟‏ قلت‏:‏ لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن‏.‏ انتهى‏.‏ ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري وهارون، عن عاصم‏.‏ جنات، منصوباً على الاشتغال، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها‏.‏ وقرأ رزين، وحبيش، والزهري‏:‏ جنة على الأفراد‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ويدخلونها مبنياً للمفعول، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنياً للفاعل‏.‏ والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائداً على الأصناف الثلاثة، وهو يقول عبد الله بن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبي الدرداء، وعقبة بن عامر، وأبي سعيد، وعائشة، ومحمد بن الحنيفة، وجعفر الصادق، وأبي إسحاق السبيعي، وكعب الأحبار‏.‏ وقرأ عمر هذه الآية، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة، لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو عائد على السابق فقط، ولذلك جعل ذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم، فذكر ثوابهم‏.‏ والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليهلك الظالم لنفسه حذراً، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغتر بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له»، فإن شرط ذلك صحة التوبة، عسى الله أن يتوب عليهم‏.‏ وقوله‏:‏ إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع‏.‏ انتهى، وهو على طريق المعتزلة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يحلون‏}‏ بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام، مبنياً للمفعول‏.‏ وقرئ‏:‏ بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام، من حليت المرأة فهي حال، إذا لبست الحلى‏.‏ ويقال‏:‏ جيد حال، إذا كان فيه الحلى، وتقدم في سورة الحج الكلام على ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الحزن‏}‏ بفتحتين؛ وقرئ‏:‏ بضم الحاء وسكون الزاي، ذكره جناح بن حبيش، والحزن يعم جميع الأحزان، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين، فقال أبو الدرداء‏:‏ حزن‏:‏ أهوال يوم القيامة، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن‏.‏ وقال سمرة بن جندب‏:‏ معيشة الدنيا الخير ونحوه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ حزن الانتقال، يقولونها إذا استقروا فيها‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ خوف الشيطان‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ حزن‏:‏ تظالم الآخرة، والوقوف عن قبول الطاعات وردها، وطول المكث على الصراط‏.‏ وقال القاسم بن محمد‏:‏ حزن‏:‏ زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة، وقد أكثروا حتى قال بعضهم‏:‏ كراء الدار، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا‏.‏ ‏{‏إن ربنا لغفور شكور‏}‏، لغفور‏:‏ فيه إشارة إلى دخول الظالم لنفسه الجنة، وشكور‏:‏ فيه إلى السابق وأنه كثير الحسنات‏.‏ والمقامة‏:‏ هي أي الجنة، لأنها دار إقامة دائماً لا يرحل عنها‏.‏ ‏{‏من فضله‏}‏‏:‏ من عطائه‏.‏

‏{‏لا يسمنا فيها نصب‏}‏‏:‏ أي تعب بدن، ‏{‏ولا يسمنا فيها لغوب‏}‏‏:‏ أي تعب نفس، وهو لازم عن تعب البدن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ اللغوب‏:‏ الوضع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ النصب‏:‏ التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له، وأما اللغوب‏:‏ فما يلحقه من الفتور بسبب النصب‏.‏ فالنصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب نتيجته، وما يحدث منه من الكلال والفترة‏.‏ انتهى‏.‏ فإن قلت‏:‏ إذا انتفى السبب انتفى مسببه، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه‏؟‏ وأنت تقول‏:‏ ما شبعت ولا أكلت، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت، لأنه يلزم من انتفاء الأكل انتفاء الشبع، ولا ينعكس، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا، فإن أماكنها على قسمين‏:‏ موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري، وموضع يمس فيه الأعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار، فقال‏:‏ ‏{‏لا يمسنا في نصب‏}‏، لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا؛ ‏{‏ولا يمسنا فيها لغوب‏}‏‏:‏ أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لغوب، بضم اللام، وعلي بن أبي طالب والسلمي‏:‏ بفتحها‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو ما يلغب به، كالفطور والسحور، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف، كأنه لغوب، كقولهم‏:‏ موت مائت‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ يجوز أن يكون مصدراً كالقبول، وإن شئت جعلته صفة لمضمر، أي أمر لغوب، واللغوب أيضاً في غير هذا للأحمق‏.‏ قال أعرابي أن فلاناً لغوب جاءت كتابي فاحتقرها، أي أحمق، فقيل له‏:‏ لم أنثته‏؟‏ فقال‏:‏ أليس صحيفة‏؟‏